فتح عينيه ليتسرّب نور شمس الخريف الناعم إلى مقلتيه...إنّه صباح نوفمبريّ جميل...أحسّ بثقل في رأسه وضباب خفيف حجب لبرهة أثاث غرفته... يا الله! كأنّ الحياة غير الحياة ...أحسّ بشعور غريب يغمره..أشبه بشعور البعث بعد الموت..
استوى واقفا ومشى بخطوات بطيئة ليخرج من باب غرفته... هاله مشهد الأثاث المكسور .. لقد كانت قاعة الجلوس "رأسا على عقب"... كأنّ زلزالا أصابها... في ركن من القاعة كانت أمّه تحاول جاهدة إعادة ترتيب ما أمكن... قبل أن تتسمّر في مكانها وقد مُلأت عيناها رعبا..كأنّها شاهدت ملك الموت... بصوت ناعم وحنون بادرها بالتحيّة "صباح الخير أمّي"... ليتحوّل الرّعب فجأة إلى صدمة واستغراب.. لم تنبس المرأة المتيبّسة ببنت شفة... هالها أن تسمع من ابنها تحيّة الصباح وترى في عينيه حنانا ولطفا افتقدته منذ سنين.. قبل إدمانه على المخدّرات وانحرافه...لقد تحوّلت حياتها مذاك التاريخ إلى جحيم... لقد أضحى ابنها أسير الإدمان وصرف كل مدخراتها وباع أثاث منزلها ..بل وصل الأمر به إلى الاعتداء عليها بالعنف لمرات عديدة بغية الحصول على المال... كان في لحظات هيجانه يدمّر كل شيء ... حتّى قلب أمّه الكسير...
لاحظ ذهول أمّه وتخشّبها فابتسم قائلا "ردّي أمّي الحبيبة عليّ تحيّتي..." واتّجه صوبها وقبّل رأسها... لتنفجر باكية مرتعشة حتى تسقط أرضا... فيسارع برفعها واحتضانها لتختلط دموعه بدموعها وليرتفع نحيب الأم المسكينة ليبلغ مسامع جارتها... جارتها التي تعوّدت نحيبها لا تدري أنّ الأمر الآن اختلف... ردّدت الأمّ باكية "إبني حبيبي... كم اشتقت إليك" ليردّ الابن في تأثّر بالغ "لست أدرى ما حصل ولكني أُحس بأنّ الله قذف نورا في قلبي...أحسّ بأنّ حملا ثقيلا نزل من على كتفيّ وأنّ شيطانا ماردا غادر جسدي..أنا حُرّ يا أمّي..حرّ من قيود الإدمان ..أرى الحياة بعينين صافيتين جديدتين..سامحيني يا مهجة الفؤاد ويا بلسم الجراح...سامحيني وادعي الله لي بالثبات والغفران"... لتردّ أمّه "آه يا ولدي لو تدري سعادتي برجوعك! لم أقنط من رحمة الله ودعوته لسنوات بلا كلل.. كنت أدعوه عقب كل صلاة حتى تفيض مدامعي.. لك الحمد ربّي حتى ترضى"...
انتهى ذلك المشهد المهيب وخرج يمشي ببطء في شارع ألف "عربدته" و"فحش كلامه".. كان يمشي كعائد من غربة أو سفر طويل...ترمقه نظرات الناس في توجّس وحيرة من ابتسامة تزيّن محيّاه وتحيّة يطلقها على من يعترض سبيله ... كان الجميع يسأل عن "السرّ الكبير".. مالّذي حدث لذلك المدمن المنحرف؟!...كان جرس هافته يرن باستمرار من أصحاب الأمس ليردّ على الجميع بجملة واحدة "لقد تبت"!.
وصل عند مسجد الحيّ بينما كان أذان الظّهر ينبعث من مكبر الصوت المثبت فوق المئذنة العتيقة... كان قد اغتسل قبل الخروج مضمرا في نفسه أمرا عظيما... وهاهو على باب المسجد وسط ذهول المصلين.. ذهول قابله بتحيّة السّلام وبابتسامة حرص أن لا تفارق محيّاه...
عند الخروج من المسجد احتضنه الناس.. كثير من الناس .. بل وفاضت أعين بعضهم بالدّمع.. حرص على الطّلب من أحدهم بقبوله معه في "المرمّة".. لقد قرّر العمل ... عملا حلالا في أيّ مجال....سيحرص على استغلال فتوّته وشبابه لتحصيل مبلغ من المال يضمن له ولوالدته حياة كريمة ويغنيهما مذلّة السّؤال... لقد فتحت كل الأبواب أمامه وذُلّلت كل الصّعاب...
إنّها ولادة جديدة تحفّها بشائر الخير وشمس الأمل التي لا تغيب...